أنه الجوع إذن، حرباً جديدة تشتغل داخل حرب الصواريخ والقذائف، حرب لا تقل شراسة أو قوة عن تلك التي نكتوي بنيرانها ونهرب من سطوتها من مكان إلى أخر، أصابنا الجوع داخل الشقة كما أصاب الآخرين وأصبحنا نتناول وجبة واحدة يومياً في منتصف اليوم، بقوليات مع أرز وخضروات مطبوخة من المتوفرة في سوق المدنية الصغير، أسماك مجمدة إن توفرت في محلات المدنية ولا تتوفر عادةً، وفي الصباح بعض قطع البسكويت يتم توزيعها على الصغار والكبار داخل الشقة فيما نكتفي ليلاً بشرب الشاي.
بعد فترة وجيزة على اختفاء الدقيق من السوق، ظهرت مجموعات من أكياس الطحين التي توزعها وكالة الغوث، كان ظهورها المفاجئ بسبب عملية سطو جماعية، حيث هاجمت مجموعة من الجياع المخازن التي تخزن داخلها وكالة الغوث الدقيق، وبدأت الأخبار تصلنا، دخلوا ليلاً مجموعة كبيرة من الناس باندفاع شديد، حطموا الأبواب فيما قفز بعضهم عن الأسوار وفي دقائق معدودة أفرغوا ما في المخزن من أكياس الطحين، وعلب السردين وزجاجات زيت الذرة وأكياس الحليب المجفف وبعض البقوليات، عدس وحمص، حتى أنهم أخذوا المكاتب والرفوف الخشية ومجلدات الأرشيف وما تحتويه من أوراق. وأخيراً أصبح لدينا القدرة على شراء كيس طحين من تلك التي أخذها الناس من مخازن وكالة الغوث، اشتريت كيس الطحين المسروق من مخازن وكالة الغوث بسعر يزيد أربعة أضعاف عن سعره الحقيقي، ودخلت به إلى الشقة وكأن بحوزتي كنز، هلل الجميع، علا وأخواتها، غمرتنا فرحة سوداء وسط مساحة الخوف والحزن الواسعة التي أخذت تمتد يوماً بعد يوم مع وتيرة الحرب المتصاعدة، وشعرنا براحة ما وشعور بالأمان، فالآن يمكننا أن نعجن خبزاً دون أن نطوي ساعات طويلة تحت أشعة الشمس للحصول غير المؤكد على بعض أرغفة الخبز، لكن ثمة مشكلة أخرى ما زالت تقف في طريق حصولنا على الخبز، فأرغفة الدقيق المرقوقة تحتاج إلى فرن ليخبزها، ولم يكن لدينا في الشقة سوى انبوبة واحدة من غاز الطهي بالكاد تكفي لطبخ الأكلات اليومية، ولذا صار لازماً علينا أن نبحث عن طرقٍ أخرى لخبز الأرغفة.
كانت الكثير من أفران الطينة، وهي أفران محلية تستخدمها العائلات القروية في غزة لطهي الطعام وخبز الدقيق قد انتشرت في المربعات الخضراء التي كانت تتوزع بين الأبراج السكنية داخل مدنية حمد، وكانت النساء القرويات بكثير من الود وبروح تعاونية عالية يتطوعنَّ لخبز الدقيق للناس في حال أحضرت العائلات الراغبة في خبز دقيقها أوراق وكراتين تكفي لاشعال النار في الأفران، وفي البيت لم يكن لدينا من الأوراق إلا الكتب الموجودة في مكتبتي الشخصية، نظرت إلي علا بشيء من الخجل وطلبت بلطفٍ شديد أن نستخدم كتاب أو كتابين كوقود لفرن الطينة، قالت: دعنا نستخدم فقط كتابين وبعد أن تنتهي الحرب يمكنك شراء كتابين بديلين، إطعام الصغار الآن أهم من القراءة لهم، انتابتني مشاعر هي خليط من الألم والحسرة وشعرت بفظاعة المسألة التي تجعلني مضطر للتعاطي مع فكرة بهذا الشكل، حيث لم يخطر على ذهني عبر سنوات طويلة اقتنيت خلالها هذه الكتب وكوّنت فيها المكتبة، أن وقتاً ما سيأتي ليضع خبز الصغار مقابل الكتب في المكتب، ووجدتني مدهوشاً من قساوة الموضوع، ومشلولاً أمام سؤال اللحظة: كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد بهذه السرعة؟
كنتُ على مدار سنوات طويلة قد استطعت تكوين مكتبي الصغيرة المتواضعة، وخلال تلك السنوات وبصورة تدريجية احتوت المكتبة ما يزيد عن مئتي كتاب، كتب في الفلسفة والاجتماع والأديان وروايات ومجموعات شعرية كان الأصدقاء قد أهدوني إياها في حفلات توقيع خاصة، مدونين عليها إهداءاتهم بخطوط أيديهم في الصفحات الأولى، وشعرت أنها جزء من ذاكرة طويلة مشتركة معهم جميعاً، مع الذين بقوا في غزة ومع من هاجروا خارجها ومع من فقدوا حياتهم في مسير البحث عن حياة فيها، وتبلورت أكثر فأكثر داخلي لحظة شاعرية متأججة تجاه المكتبة التي بدت لي حينها وكأنها كتلة حية من دم وعرق وذكريات وحيوات ومشاوير في شوارع غزة ومقاهيها وأزقتها وعلى ساحلها في ليالي الصيف والشتاء.
ولذا قلت: لا لن أحرق حتي ورقة واحدة من هذه الكتب، على الأكيد سيكون هناك حلاً أخراً، كانت علا تدرك أن محاولتها للضغط علي وإقناعي لن تكون مفيدة ولذا وجدتها تقول: لا عليك المهم الآن أن نجد ورقاً نعطيه للسيدة كي تخبز لنا الأرغفة قبل أن تتلف.
هبطت درج المبنى وبدأت السير في شوارع المدينة، وعلى عكس ما كنتُ اعتقد بأني سأجد الكثير من الأوراق والكراتين الفارغة أمام حاويات القمامة وبالقرب من محلات البقالة، كانت شوارع المدينة فارغة تماماً من أي ورقة أو قطعة كرتون، كان الناس قد استخدموا كل الأوراق أو قطع الكرتون الموجودة في حاويات القمامة، وكنت في أثناء البحث عليها أجد الكثير من الرجال والناس والصغار يبحثون مثلي والجميع يحرث الأرض بنظراته في محاولة ايجاد قطع كرتون صغيرة يعطيها للسيدات القرويات لخبز أرغفته، وشعرت لوهلة أن المدينة قد أفرغت تماماً من الورق وقطع الكرتون، وبدأ شعور عارم باليأس يتسرب إليه وأنا أركض في الشوارع يميناً ويساراً باحثاً عن الورق الذي بدا وكأنه سراب، وكدتُ أعود إلى الشقة وآخذ كتابين من مكتبتي لأخبز على نارهما أرغفة تسد رمق الصغار في الشقة، لولا تدخل صاحب البقالة في أسفل البناية والذي كان على ما يبدو يراقب محاولاتي وبحثي عن قطع الكرتون، والذي قرر بعد أن شعر بأنني يأست مساعدتي أخيراً.
قال: تبحث عن كرتون، أليست كذلك؟ قلت: أكيد هل لديك بعضها، قال: نعم لا يغلى عليك، تفضل. تناولت من الرجل ثلاث قطع كبيرة من الكرتون وشكرته كثيراً قبل أن اندفع إلى الشقة مجدداً، وقد تملكتني مشاعر من الزهو والسعادة وشعرت بأن الرجل انتشلني من الغرق في بحر الندم الذي كنتُ على وشك الغرق فيه إن بدأت في حرق الكتب في المكتبة.
فالمكتبة وإن بدت صغيرة ومتواضعة مقارنة بغيرها، كانت بالنسبة لي أرواح من كتبوا صفحاتها، وهذا ليس تصورّا شاعرياً أو مجازياً إنما حقيقة شعرتُ بها لسنوات.